فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (55):

قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)}

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

{فمنهم} أي من آل إبراهيم {من آمن به} وهم أغلب العرب {ومنهم من صد عنه} أي أعرض بنفسه، وصد غيره كبني إسرائيل وبعض العرب.
ولما كان قد علم من السياق أن الطاعن فيه ميت بحسده من غير أن يضره بأمر دنيوي، وكان التقدير لبيان أمرهم في الآخرة: فحكمنا أن تسعر بهم النار بعد الذل في هذه الدار والهوان والصغار، عطف عليه قوله: {وكفى بجهنم سعيرًا} أي توقدًا والتهابًا في غاية الإحراق والعسر والإسراع إلى الأذى، وفي آية الطاغوت أنهم سمحوا ببدل الدين- وهو لا أعز منه عند الإنسان- في شهادتهم للكفرة بالهداية، وفي آية الملك الإيماء إلى أنهم في الحضيض من الشح بالخسيس الفاني، وفي آية الحسد أنه لم يكفهم التوطن في حضيض الشح بما أوتوا مع الغنى حتى سفلوا عنه إلى أدنى من ذلك بالحسد لمن آتاه الله ما لا ينقصهم. اهـ.

.قال الفخر:

اختلفوا في معنى به فقال بعضهم: بمحمد عليه الصلاة والسلام، والمراد أن هؤلاء القوم الذين أوتوا نصيبا من الكتاب آمن بعضهم وبقي بعضهم على الكفر والانكار.
وقال آخرون: المراد من تقدم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
والمعنى أن أولئك الأنبياء مع ما خصصتهم به من النبوة والملك جرت عادة أممهم فيهم أن بعضهم آمن به وبعضهم بقوا على الكفر، فأنت يا محمد لا تتعجب مما عليه هؤلاء القوم، فإن أحوال جميع الأمم مع جميع الأنبياء هكذا كانت، وذلك تسلية من الله ليكون أشد صبرا على ما ينال من قبلهم. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَمِنْهُمْ} أي من جنس هؤلاء الحاسدين وآبائهم {مَنْ ءامَنَ بِهِ} أي بما أوتي آل إبراهيم {وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ} أي أعرض {عَنْهُ} ولم يؤمن به وهذا في رأي حكاية لما صدر عن أسلافهم عقيب وقوع المحكي من غير أن يكون له دخل في الإلزام، وقيل: له دخل في ذلك ببيان أن الحسد لو لم يكن قبيحًا لأجمع عليه أسلافهم فلم يؤمن منهم أحد كما أجمعوهم عليه فلم يؤمن أحد منهم، وليس بشيء، وقيل: معناه فمن آل إبراهيم من آمن به ومنهم من كفر، ولم يكن في ذلك توهين أمره فكذلك لا يوهن كفر هؤلاء أمرك فضمير {بِهِ} و{عَنْهُ} على هذا لإبراهيم، وفيه تسلية له عليه الصلاة والسلام ورجوع الضميرين لمحمد صلى الله عليه وسلم وجعل الكلام متفرعًا على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكتاب} [النساء: 47] أو على قوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين} إلخ في غاية البعد، وكذا جعل الضميرين لما ذكر من حديث آل إبراهيم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وضمير {منهم} يجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير {يحسدون}.
وضمير {به} يعود إلى الناس المراد منه محمّد عليه السلام: أي فمِنَ الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب مَن آمن بمحمّد، ومنهم من أعرض.
والتفريع في قوله: {فمنهم} على هذا التفسير ناشيء على قوله: {أم يحسدون الناس}.
ويجوز أن يعود ضمير {فمنهم} إلى آل إبراهيم، وضمير {به} إلى إبراهيم، أي فقد آتيناهم ما ذُكر.
ومن آله من آمن به، ومنهم من كفر مثل أبيه آزر، وامْرأةِ ابن أخيه لوط، أي فليس تكذيب اليهود محمّدا بأعجب من ذلك، {سُنَّة من قد أرسلنا قبلَك من رُسلنا} [الإسراء: 77]، ليَكون قد حصل الاحتجاج عليهم في الأمرين في إبطال مستند تكذيبهم؛ بإثباتتِ أنّ إتيان النبوءة ليس ببدع، وأن محمّدا من آل إبراهيم، فليس إرساله بأعجب من إرسال موسى.
وفي تذكيرهم بأنّ هذه سنّة الأنبياء حتى لا يَعُدّوا تكذيبهم محمّدا صلى الله عليه وسلم ثلمة في نبوءته، إذ لا يعرف رسولا أجمْعَ أهل دعوته على تصديقه من إبراهيم فَمن بعده. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {فمنهم من آمن به} فيمن تعود عليه الهاء، والميم قولان:
أحدهما: اليهود الذين أنذرهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا قول مجاهد، ومقاتل، والفراء في آخرين.
فعلى هذا القول في هاء به ثلاثة أقوال:
أحدها: تعود على ما أنزل الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد.
قال أبو سليمان: فيكون الكلام مبنيا على قوله: {على ما آتاهم الله من فضله} وهو النبوة، والقرآن.
والثاني: أنها تعود إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون متعلقة بقوله: {أم يحسدون الناس} يعني بالناس: محمدًا صلى الله عليه وسلم، ويكون المراد بقوله: {فمنهم من آمن به} عبد الله بن سلام، وأصحابه.
والثالث: أنها تعود إلى النَّبأِ عن آل إِبراهيم، قاله الفراء.
والقول الثاني: أن الهاء، والميم في قوله: {فمنهم} تعود إِلى آل إِبراهيم، فعلى هذا في هاء {به} قولان:
أحدهما: أنها عائدة إِلى إِبراهيم، قاله السدي.
والثاني: إِلى الكتاب، قاله مقاتل.
قوله تعالى: {ومنهم من صدّ عنه} وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وابن جبير، وعكرمة، وابن يعمر، والجحدري: {من صُدّ عنه} برفع الصاد. اهـ.

.قال الطبري:

وفي هذه الآية دلالة على أن الذين صدّوا عما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، من يهود بني إسرائيل الذين كانوا حوالَيْ مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما رَفعَ عنهم وعيدَ الله الذي توعِّدهم به في قوله: {آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا} في الدنيا، وأخرت عقوبتهم إلى يوم القيامة، لإيمان من آمن منهم، وأن الوعيدَ لهم من الله بتعجيل العقوبة في الدنيا، إنما كان على مقام جميعهم على الكفر بما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. فلما آمن بَعضُهم، خرجوا من الوعيد الذي توعَّده في عاجل الدنيا، وأخرت عقوبةُ المقيمين على التكذيب إلى الآخرة، فقال لهم: كفاكم بجهنم سعيرًا. اهـ.

.قال الفخر:

{وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} أي كفى بجهنم في عذاب هؤلاء الكفار المتقدمين والمتأخرين.
سعيرا، والسعير الوقود، يقال أوقدت النار وأسعرتها بمعنى واحد. اهـ.

.قال الألوسي:

{وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} أي نارًا مسعرة موقدة إيقادًا شديدًا أي إن انصرف عنهم بعض العذاب في الدنيا فقد كفاهم ما أعد لهم من سعير جهنم في العقبى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {وكفى بجهنم سعيرًا} تهديد ووعيد للّذين يؤمنون بالجبت والطاغوت. اهـ.

.قال الطبري:

ويعني بقوله: {وكفى بجهنم سعيرًا}، وحسبكم، أيها المكذبون بما أنزلت على محمد نبيي ورسولي {بجهنم سعيرًا}، يعني: بنار جهنم، تُسعَر عليكم أي: تُوقدُ عليكم. اهـ.

.قال النيسابوري في الآيات السابقة:

{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)}.
وقوله: {من الذين هادوا} إما بيان للذين أوتوا نصيبًا من الكتاب وقوله: {والله أعلم} إلى آخر الآية معترض بن البيان والمبين، وإما بيان لأعدائكم والجملتان بينهما معترضتان، وإما صلة {نصيرًا} كقوله: {ونصرناه من القوم الذين كذبوا} [الأنبياء: 77] وإما كلام مستأنف على أن {يحرفون} صفة مبتدأ محذوف تقديره: من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم عن مواضعه. قال الواحدي: الكلم جمع حروفه أقل من حروف واحده، وكل جمع يكون كذلك فإنه يجوز تذكيره. ومعنى هذا التحريف استبدال لفظ مكان لفظ كوضعهم آدم طوالًا مكان أسمر ربعة وجعلهم الحد بدل الرجم. واختير عن للدلالة على الإمالة والإززالة. وأما في المائدة فقيل: {من بعد مواضعه} [المائدة: 41] نظرًا إلى أن الكلم كانت له مواضع هو قمن بأن يكون فيها، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له. وقيل: المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة كما يفعله في زماننا أهل البدعة. وجعل بعض العلماء هذا القول أصح لاستبعاد تحريف المشهور المتواتر، لكن دعوى التواتر بشروطه في التوراة ممنوعة.
وقيل: كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه عن أمر فيخبرهم به فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه. ومن جملة جهالاتهم أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أمرهم بشيء قالوا في الظاهر سمعنا وفي الباطن عصينا، أو كانوا يقولون كلا اللفظين ظاهرًا إظهارًا للعناد والمرود والكفر والجحود، ومنها قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم {اسمع غير مسمع} وهو كلام ذو وجهين: أما احتماله المدح فلقول العرب: أسمع فلان فلانًا إذا سبه وإذا كان المراد: اسمع غير مسمع مكروهًا كان مدحًا وتوقيرًا ونصحًا.
وأما احتمال الذم فبأن يكون معناه اسمع منا مدعوًا عليك بلا سمعت، لان من كان أصم فإنه لا يسمع فلا يسمع، أو بأن يراد اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه أي غير مسمع جوابًا يوافقك، أو بأن يراد اسمع غير مسمع كلامًا ما ترتضيه، وعلى هذا يجوز أن يكون {غير مسمع} مفعول {اسمع} لا حالًا من ضميره أي اسمع كلامًا غير مسمع إياك لنبوّ سمعك عنه. ومنها قولهم له صلى الله عليه وسلم {راعنا} وقد عرفت احتمالاته في البقرة. وإنما جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد تصريحهم بالعصيان على وجه لأن المواجهة بالعصيان أهون خطبًا في العرف من المواجهة بالسب ودعاء السوء ولهذا كانت الكفرة يواجهونه بالأول دون الثاني {ليا بألسنتهم} مفعول لأجله، أو مصدر لمحذوف، أو لـ {يقولون} لأنه في معنى اللي أيضًا وعينه واو بدليل لويت فقلبت وأدغمت، والمعنى: يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل حيث يضعون {راعنا} موضع {انظرنا} و{غير مسمع} موضع لا سمعت مكروهًا، أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقًا، أو لعلهم كانوا يفتلون أشداقهم وألسنتهم عند ذكر هذا الكلام سخرية وطعنًا على عادة المستهزئين، فبين الله تعالى أنهم إنما يقدمون على هذه الأشياء طعنًا في الدين ونبه بذلك على ما كانوا يقولونه فيما بينهم إنا نشتمه ولا يعرفه ولو كان نبيًا لعرف بإظهار ذلك عليه فانقلب ما جعلوه طعنًا في الدين دلالة قاطعة على صحته لأن الإخبار عن الغيب معجز. {ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا} بدل قولهم: {سمعنا وعصينا} إذ وضح لهم الآيات وثبت لهم البينات كرات بعد مرات و{اسمع} دون أن يقال معه {غير مسمع} {وانظرنا} مكان {راعنا} {لكان} قولهم ذلك {خيرًا لهم وأقوم} أعدل لا أشد من قولهم: رمح قويم أي مستقيم {ولكن لعنهم الله بكفرهم} أي بسببه {فلا يؤمنون إلاّ} إيمانًا {قيلًا} وهو إيمانهم بالله وبالتوراة وببعض الأنبياء دون سائر رسله. أو إلاّ قليلًا منهم آمنوا لأن فعيلًا قد يراد به الجمع كقوله: {وحسن أولئك رفيقًا} [النساء: 69] أو أراد بالقلة العدم.